top of page

صلاح الحمداني ـ من دفتر عراقي في المنفى 

تنويــه:

نشر هذا المقال قبل سقوط الطاغية صدام

وقبل أن يمسخ حزب البعث العربي الفاشي ويتحول إلى "داعش"

 سؤال صحيفة طريق الشعب عام 1996 حول:

المبدعون... وانشغالاتهم

 

لا أعرف لماذا يختض عقلي وترتجف أيامي مضنوكة وكأنها أجنحة بلا جسد في زمن لم أكف أبداً من تقنينه وترتيبه كما أستطيع، محاولاً دوماً ترويض أضراسه النابتة في نسيج حياتي التي تجلد بلا رحمة بسياط فصول الهجرة والانتظارات.

الرقود والصحو مع الأموات والغائبين، والعدو مع اللاهثين من أجل الحرية. وماذا بعد ؟

أن أيامي وذاكرتي يجهدان كل حسب طريقته في تجاوز قسوة زمني القاهر هذا. لم أتمكن تخليص تفكيري من فزع الماضيّ المكشر بوقاحة. الماضي المركون، المتفرج، ذاك الذي صلب مع صباحاتي البريئة حال أن وطأت أقدامي حدود هذه المدن المجهولة. وبقى هذا الماضي يغطس ويطفو في حياة اللامعقول التي أحياها مثل صورة لا تفارقني لطفل يبتسم واقفاً قرب سياج ساحة الآمة في الباب الشرقي من بغداد، قبل أن يحولها الطغاة إلى أروقة للموت، ومنصة للإعدامات والرؤوس المعلقة بالحبال. قد يكون لهذا الصبي شبها ما فيّ وشبهاً بماضي ّ، ذاك الذي لم يخدشه غير فراق الفرات وشيب العمر، المتراكض نحو هاوية حتفه الأخير.

 

فماذا سيعنيني، صراحة، السؤال عن السنوات الأخيرة، طالما أن مستقبلي مجهول الرائحة والطعم واللون والمعالم. وما تعنيني تلك السنوات التي انطفأت فوق أرصفة التشرد والمنافي. ألم تكن ذاتي منشغلة منذ زمن خروجي من زنزانات بعث صدام ودهاليز موته، في إعادة رد الاعتبار لجيلي. جيلي الذي أراد سفلة العراق وقراصنة الموت تسميره على حيطان العار والذل. نعم أراد الفاشيون العراقيون أن تكون حياتي وحياة جيلي مخزية محتقرة وبلا هدف. حياة دمرها عبث اللامنطق والحروب والخراب والمنافي. ورغم هذا الخراب فإن جيلي يصارع ذاته ويتصارع مع الكون من أجل أن يعطي معنى ما لهذه السنوات، لهذا الشيب، لهذا الضياع، لهذه المنافي، لهذه الحناجر.

 

كل هذه الأعوام التي خلت وعلى الرغم من قساوتها لم تجعلني متكاسلاً ولم تقيد صحوتي العنيدة، في تضميد جراح أيام شبابي وقمرها الذي سقط فوق سطح دارناً يوماً. مغتصباً متورماً بركلات الجلادين. ولم تجعلني أنسى الهزائم والدمار وكذلك الانتصارات المرتقبة. لم لا، طالما أن ذاك القمر اصطحبني رغماً عنيّ مع دموعه الهاطلة مثل حبات من النيازك المشتعلة. ولازال هذا القمر ينبض بحرارة الشوق للوطن وينتصب أمامي وأنا أكتب مسوداتي حد هذه اللحظة عن [وطن ذو سيفين، وطن ذو حدين، كما يصوره الشاعر سعدي] وطن جريح يتخبط بدمائه وسط ساحة بلا مخرج، مضرجاً وسط عزلة تستفحل مع انبثاق خطوط الشموس. شمسنا التي بردت وذبلت في وحل مقابر مدن الغربة.

 

والآن تريدون مني أن أسلسل السنوات الأخيرة التي فيها عملت شيئاً ما. أليس كذلك ؟ ولكن ماذا فعلت يا ترى كل هذه السنوات التي رحلت بلا عودة ؟

يا إلهي ماذا فعلوا بالعراق وبنفسي ؟ وماذا فعلت أنا حقاً لوطن أستفردوه طغاة هذا العصر وجعلوا من أجياله مرارة حناجر تصدح في صدى الخراب ؟ تريدون أن أعطي معنى لوجود فعلي يقاس بالسنوات، وجود ممنطق، مفهوم، له أبعاد إنسانية. إذن عليّ والحالة هذه، أن أنفض عن كياني سنوات اللامعنى، وعزل الصباحات الخائبة والمخيبة وحزمها هي وشجونها في ملفات، سأطلق عليها تسمية أيام الحداد. ثم أبدأ في غربلة الأيام التي تحولت إلى خناجر حادة تطعن بلا كلل في روح رجل مثلي فقد كل شيء عدا فكرة أمل لقيط، مستهتر، أمل أسمه الانتظار من أجل تصفية الحسابات مع المقابر والسجون والمنافي والفاشيين وجهنم الليالي البائسة. تلك الليالي التي حولت ليالي المنفى إلى كوابيس محملة فوق أجنحة فخات عمياء، تتهافت فزعة لتحشر أبدانها الهزيلة في حيز وجودي.

 

وإذا كان لابد أن أقول شيئاً عن نفسي، فهذا جوابي:   

● العراق والشعر والمسرح والسينما، وتضميد شروخ اللوعات والفراق، هذا ما شغلتني به لحظات السنوات الأخيرة.

● العراق والشعر وكتابة القصة والنصوص النثرية، وأيضاً لحس قيح جراح الخيانات والخيبات. هذا ما أفعله الآن.

●البحث عن أية وسيلة كانت من أجل أن يكون لي شرف المساهمة مستقبلاً في رؤية ضحايا صدام يخرجون من مقابرهم ويلتهمون قلبه.

● لقد صدرت لي مجاميع شعرية كثيرة باللغة العربية والفرنسية وعملت أيضاً في الوسط الفني الفرنسي ومرات   العربي. هذا في مضمار المسرح والسينما والتلفزيون. وسيصدر لي بعض من المجاميع الشعرية والقصصية قريبا في باريس وسوريا وربما عراق ما بعد صدام، من يدري ؟ أسعى جاهداً، أيضاً، وأيضاً على استئصال شعور الخيبات المتتالية لأجدادي، أولئك الذين هزموا وتضاجعوا وتناسلوا وضحكوا على التاريخ وضحكت منهم الأقدار.

 

أيكفي هذا عُدة للمستقبل القريب ؟ على أية حال هذا ما أتحصن به لمواجهة الأيام التي ألمح شراستها في الأفق وأشاهد عواصفها التي ستحوي أتربتها كياني بلا شك.

 

صلاح الحمداني، باريس ـ 1/7/1996

bottom of page