top of page

الحمداني.. لم أكن يوماً دمية للهذيان

الروائي حسين السكاف 

يحاور الشاعر صلاح الحمداني

مجلة إيلاف الالكترونية 2008

 

صلاح الحمداني

الروائي حسين السكاف

● حين كان الحمداني يتحدث عن الشعر والمسرح قفزت إلى ذهني فكرة عمله الأخير " بغداد سماء مفتوحة " الذي قدمه مع الموسيقي العراقي أحمد مختار والممثلة الفرنسية "فردريك بروياس" على مسرح مدينة " ليون " إحدى المدن الفرنسية الكبيرة. وما أن توقف حتى سألته عن فكرة العمل وأبعادها، فأجاب على الفور مبتسماً:

 

■ ربما الرغبة العارمة لترسيخ أهمية الكتابة وما تكتنزه من أهداف وصور كامنة وراء الكلمات، وبغداد ملتصقة بحياتنا اليومية، بل نحن على البعد نتنفسها بشكل يومي، هي الحبيبة التي تتعرض اليوم إلى التشويه والاغتصاب ومن كل صوب، عربي كان أم غربي. وهي تتعرض في الوقت نفسه إلى الذبح السلفي البعثي، فلا بد أذن ونحن أبناءها أن نتحدث عنها وعن ما يدور في خلدها وآلام جسدها. اسم العمل " بغداد سماء مفتوحة " مستوحى من عنوان مجموعتي الشعرية التي كتبتها عام 2006 باللغة الفرنسية وصدرت من قبل دارين للنشر هما " الفكرة الزرقاء " الفرنسية و" الكتابة المنصهرة " الكندية. وباعتقادي أن اسم هذا العمل قريب جداً من واقع العراق اليوم. فنحن جزء لا يتجزأ من بلدنا وبالتالي فنحن نخوض عملية مخاض محتدمة وعصية وعلى كافة الأصعدة، وما لنا سوى تصور المستقبل مفتوحاً على مصراعيه، وأن سماء بغداد زرقاء رغم غيومها ومنفتحة على كافة الاحتمالات، رغم كل ما يحدث من خراب.

 

● هل يحق لنا تصنيف العمل بالعمل المسرحي، أم هناك تصنيفاً آخراً؟

 

■ العمل ليس عملاً مسرحياً بالمعنى الحرفي، بل هناك توظيف مهم ومدروس بغية تقديمه بشكل فني جديد، كل الوسائل المتاحة في عالم المسرح، الإنارة، التسجيل الصوتي، عرض الصور (السلايدات). أما النص الذي قدمناه، فهو مستلهم عن مجموعة من النصوص المكتوبة نثراً وشعراً، عربياً وفرنسياً، وأيضاً، من نصوص كنت قد كتبتها بالفرنسية وترجمتها إلى العربية، اشتغلت عليها وأضفت لها بعضاً من تلك النصوص المكتوبة والمنشورة قبل سقوط النظام الديكتاتوري، وكذلك قسم من تلك التي كنت قد كتبتها أيام عودتي إلى بغداد بعد ثلاثين عاماً من المنفى، وزودتها أيضا بما كتبته باللغة الفرنسية في بغداد وأرسلته عن طريق "الإنترنيت" وصدر بعد عودتي إلى فرنسا بكتاب فني حمل عنوان " قصائد بغداد ".

 

● ولكن، لماذا أتت بغداد عنواناً متأخراً، فبعد العديد من العناوين التي حملتها كتبك المنشورة، نجد حضوراً متأخراً لبغداد على أغلفة كتبك؟

 

■ بعد إصدار أكثر من عشرين مجموعة شعرية، بين بالعربية والفرنسية، وما كنت أترجمه من قصائدي العربية إلى الفرنسية، كثيراً ما تطرقت إلى بغداد. ولكني، تلمست بغداد في داخلي ووجدت "بغداديتي" تختلف تماما عن من كان يتحدث ويتبجح بها، دكتاتوراً كان أم قزماً مصفقاً. فحين وقفت ضد الحرب، لم أكن مدافعا عن زمرة لصوص شوارع وعصابات بدوية متخلفة دمرت حضارة العراق ونهبت خيراته وأثاره حتى قبل مجيء المحتل الأمريكي. وإنما من أجل ناس بغداد وظلال نخيلها وأشجارها وبيوتها وأزقتها ونهرها العظيم. من هنا أردت أن أبين وعلى جميع الأصعدة أن حضور بغداد كعنوان لأكثر من كتاب شعري، وباللغة الفرنسية، مثل: "بغداد حبيبتي"، و"العودة إلى بغداد"، و"بغداد سماء مفتوحة"، كل هذا هو نوع من الالتزام الأخلاقي والإنساني المفعم بالانتماء إلى هذه المدينة. لقد كنت وما أزال نقابيا في فرنسا، وعضوا في حزب يساري فرنسي، وأملك اليوم وسام شرف أكثر قيمة من الشعر، وأقصد بهذا، أعوام المنفى الطويل بسبب نضالي ومناهضتي للطغاة والعصابات الإرهابية أينما وجدت، خصوصا تلك التي تربت وأكلت من ولائم مذابح الدكتاتور العراق المقبورة. علما أن مجموعة "بغداد سماء مفتوحة" رشحت إلى عدة جوائز أدبية في فرنسا وبلجيكا، وترجمت إلى الإنكليزية وستصدر العام القادم ضمن مختارات من نتاجي الشعري والنثري في أمريكا وسيحمل الكتاب عنوان "بغداد حبيبتي"، وقسم منها ترجم إلى الألمانية والأسبانية والعبرية. وأقول لك، أن سماء بغداد وعلى الرغم من كل ما جرى وسيجري تبقى صافية زرقاء حين لا يستظل تحتها دكتاتوراً!

● تضمنت انطولوجيا الشعر الفرنسي الحديث لعام 2007 اسم الشاعر صلاح الحمداني، ترى ما هي الميزات والأسس التي تعتمدها لجنة الاختيار ليكون الحمداني القادم من الشرق ضمن هذه الانطولوجيا المهمة؟

 

■ نحن نعرف بأن هناك أكثر من انطولوجيا شعرية تصدر في فرنسا كل عام، وإن اسمي ذكر في "عام الشعر 2007، انطولوجيا سيجَر"، ودار نشر "سيجَر" هي إحدى أهم دور نشر الشعر "المتزن" في فرنسا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، علينا أن نعرف بأن لا شيء يجبر أعضاء لجنة انطولوجيا للشعر الفرنسي على اختيار أو حذف شاعر ما، سوى المستوى الشعري والإبداعي. فهم يتعاملون مع النتاج الإبداعي دون التفكير بالمصلحة الذاتية الضيقة. وهم لا يعرفون أي قلق على وجودهم الشعري حينما يقيمون شاعراً ما، والحقيقة أنني لا أعرف مؤلفي هذه الانطولوجيا، ولكنهم قرءوني واختاروني، ولم يوقفهم لا أسمي العربي ولا مناهضتي العلنية في فرنسا لدكتاتورية صدام وموقفي ضد الحرب على العراق، ناهيك عن وقوفي اليومي هنا بتعرية الإرهاب ومسببيه الحقيقيين الذين يمزقون أجساد أهلي هناك في واد الرافدين، ويكاد يضرب حضارة الغرب. فأعضاء اللجنة لم يشطبوا على قصائدي الفرنسية بحجة أن هذا الأديب والشاعر هو عراقي منفي سياسياً، ويعلن الحرب على الحرب، ولم يضعوا خطاً أحمراً على أسمي كونه لا يمت بصلة لأسماء أبنائهم الحقيقيين وأدبائهم، فهم كشعراء وكتاب حين يختارون شاعراً، ويتحدثون عنه، تراهم في منأى عن المصالح الآنية والذاتية التي تفسد الإبداع وجمالياته. وحده النص وجمالية الشعر ما جعلهم يختاروني، وهذا ما كان في حسبانهم، وأن دل هذا على شيء فإنه يدل على أن هناك نقاء آدمي في عالمنا الكبير، وأن الثقافة بمفهومها الكوني لا زالت بعافية.

 

● هل يعني هذا أنك أصبحت شاعرا فرنسيا؟

 

■ لا أبدا، لا يصح إطلاق هذه التسمية، لأني ما زلت بحاجة إلى مساعدة الروح والذهنية الفرنسية بالعمل على تشذيب نصي المكتوب بالفرنسية وغربلته، أسوة بالكثير من الكتاب الفرنسيين والأوربيين. وأود أن أشكر هنا رفيقة حياتي السيدة "إيزابيل لآني" لجهودها وعملها الدؤوب على نصوصي المكتوبة بالفرنسية، وعلى مساعدتي بترجمة قصائدي من العربية إلى الفرنسية.  أنا شاعر وكاتب عراقي أكتب بالفرنسية أيضاً، جئت إلى هذه البلاد هاربا من الموت العربي الفاشي، ومن يستنكر علينا وجودنا وإبداعنا وأسباب مجيئنا فهو على خطأ كبير، ولا أتصور أن الشعر الفرنسي بحاجة ليّ ولا لغيري من المبدعين الأجانب، فالثقافة الفرنسية تضرب عميقا في جذور تاريخ الإنسانية الإبداعي، وهي إحدى المراجع والأعمدة الأساسية والحيوية في تاريخ ثقافة العالم وتطور البشرية الذهني والإنساني. وفي المقابل عليّ أنا بالذات، دون سواي أن لا أنسى أبداً من أين أتيت ولماذا أتيت إلى هذا البلد، لذلك فأنا لا أنسى فضل فرنسا عليّ، فهي التي آوتني حينما كنت مطارداً من قبل الفاشيين العرب وثقافتهم الإقصائية، وهي التي أنقذت رأسي من التدلي بحبل مشنقة السياسة العربية القمعية أو الموت في حروبهم الطائشة، هي التي منحتني مسكناً وخبزاً وأولاداً وامرأة تحبني، فلماذا أنكر كل هذا، على العكس، أنا أحب فرنسا وثقافتها وجمالها الإنساني، وطبيعي جداً أن أكتب باللغة الفرنسية كي يسمع صوتي، لأخذ حقي وحصتي بالكلام وأكون شاهداً ودليلاًً لذاكرتي كي أمررها عبر الممرات الضيقة لعقلية الآخر، أنا شاهدي على عصري وعلى آدميتي ولا شيء سوى ذلك.

 

● في مقدمته لديوان (أقصى النهارات) الصادر عن دار المدى عام 1996 كتب الفنان والشاعر العراقي محمد سعيد الصگار " أن صلاح الحمداني لم يجد حرجاً في التصريح لي ذات يوم، بأنه لا يعرف الشعر كما نعرفه، ولا يمارسه كما نمارسه، وليس لديه من عدة الشعراء، إلا هذا الاحتراق والحساسية والهوس المجنون بمثل عليا وقيم أخلاقية وأحلام بإصلاح خراب العالم كله"... ترى هل كان الأستاذ الصگار محقاً ؟ وكيف تفسر لنا هذه المقولة؟

 

■ عندما تكون بحضرة إنسان بحجم وطاقة مبدع مثل "الصكَار"، لا بد وأن تأخذك التساؤلات، لماذا يبدع المرء؟ لماذا نقرأ؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ لماذا الكتابة ؟ أسئلة كثيرة تجدها ماثلة أمامك وأنت تجالس فنان متحدث وحكواتي بامتياز، فطن، يعرف كيف يشد مستمعيه. لقد تعلمت اللغة العربية في سجون البعث، كان ذلك بفضل بعض من السجناء السياسيين، فأنا لم أدرس سوى ثلاث سنوات في مدرسة ابتدائية مسائية حقيرة، كانت تضم خليطاً من الصبية والرجال الأميين الكادحين من أمثالي. المدرس الوحيد الذي أتذكره، كان من أبناء محلتنا الشعبية في "عباس أفندي"، كان مختصاً بكل شيء، العربية والرياضيات والرسم والتاريخ، والملاكمة والشتم. مصيبتنا أنه كان ملاكماً في النهار ومدرساً أرعناً في المساء. لقد هربت من المدرسة وبعدها من العراق، ولم أتعلم في بلدي سوى الحزن والتمرد، رفضت أن أكون دميت يتدرب بها ذاك المدرس السافل، مقابل أن أتعلم الأبجدية، وقد كتبت عن ذلك في كتابي السردي "حياة بين قوسين"، الصادر عن دار المدى عام 2000. أنا لا أملك أية شهادة دراسية عراقية، ولم يشغلني ذلك قطعا، حتى أني أهملت دراستي عام 1979 قبل أشهر من حصولي على "ليسانس" المسرح في باريس، حيث تركت الجامعة لانشغالي بتحضيرات دور "أنكيدو" على خشبة المسرح الوطني الفرنسي، فهذا الدور – حسب قناعتي - كان أفضل بكثير من الشهادات الجامعية. من هنا تستطيع أن تتصورني وأنا أجالس مبدعاً عراقياً مختصاً باللغة والخط والفن، والشعر، وعلاوة على هذا، فالصكَار مكتبة عربية متنقلة، ويحتفظ بخزين من المعرفة والثقافة بشكلها الإنساني الواسع. فكيف تراني أتطرق بحضرته إلى موضوع الشعر وبحوره وتعقيداته؟ أنا الذي قضيت طفولتي وشبابي في مهن عديدة انتهت بالجيش والاحتجاج والتمرد على البعث، ثم جاء السجن وتبعه زمن المنفى. أنا أجهل تقنيات الشعر العربي، ولم أطلع إلا على القليل منه. لذا كنت صريحاً مع الصكَار. كنت بحاجة إلى أديب يقرأ نصوصي ويحدثني عن انطباعاته بخصوص ما أكتب، وطلبت ذلك فعلاً منه، ولم أُحْرَج من طلبي، كوني كنت متيقناً من دماثة أخلاق الصكَار وطيبته المفرطة، وأعتقد أنه وجد في ما أكتب شيئاً يستحق التحية والتشجيع، وهو الرجل العارف، ولم يقصر معي بفطنته. ثم أن غالبية علاقاتي مع الكتاب والشعراء العرب والعراقيين في هذه المعمورة، لا تتجاوز حدود التحية، وشرب القهوة، وهم لا يتجاوزن أصابع اليد الواحدة بكل الأحوال. لا أبحث عنهم وهم لا يبحثون عني، ويبدو أننا سعداء بذلك، علاقاتي متينة مع بعض الفنانين التشكيليين العراقيين، وهذا يعود كما يبدو كوننا لا نغمس أيدينا بنفس الألوان الإبداعية، لكن رغم ذلك لا يقلقنا أن ننظر للعالم من نفس الزاوية ونحمل الهموم نفسها. أكيد دراسة المسرح في فرنسا والتمثيل باللغة الفرنسية قوى عودي، وجعل من اللغة العربية شيئاً ثانوياً بدل أن يكون رئيسياً، فبنيتي الثقافية تعتمد على الكثير من الفرنسية والقليل من العربية، وهذا ما دفعني إلى المطالعة العربية والتعلم الذاتي بشكل يومي ومستمر.. أقول: بغداد ولدتني وفرنسا جعلت مني رجلاً، أما العزلة، فقد علمتني كل شيء، حتى تهذيب الذات الجريحة والتعايش مع هذا المنفى الطويل.. الحقيقة أن "الصكَار" كان محقاً، فأنا لا زلت أريد إصلاح خراب العالم، ولم أخلف عهدي وتمسكي بحبي وتقديسي لأحلام البسطاء من ضحايا الفاشيين وسواهم.

 

● أختتم حواري مع الشاعر والفنان العراقي صلاح الحمداني بهذا المقطع من قصيدة له بعنوان

" بعد العودة إلى بغداد " 

 

■ لكي أتمكنَ من الاقترابِ منكِ، كان لزاماً عليّ أن أهجرَ الحلمَ الذي أعتدتُ أن أحدثَ الغرباءَ عنهُ، وأتركُ نفسيَ فريسةَ نفسي حينما تسرفُ اللحظاتُ بذكرياتها. أرتبُ أحاسيسي كمن يعدلُ ترتيبَ مكانٍ مهجورٍ. وأصفي حساباتي مع مشاويِر الندمِ، أعاتبُ القدر. أفتحُ منافذَ النهر وأستمعُ لأحاديثه.. نعم، أردتُ العودة إلى قربكِ بكلِ وجودي.. مثلَ متعبدٍ، لا تنفعهُ آياتُ التوسُّلِِ، يخطو وفوقَ لسانهِ أبجديةُ الأسفارِ، وزلاتُ بدنهِ تستفحلُ كلما يقتربُ من القبر...

 

 

حاوره حسين السكاف: ● لم يجلس على مقاعد الدراسة طويلاً، الحياة وقساوتها وقفت عائقاً أمام رغبة التعلم العارمة التي لم تفارقه أبداً. البيت الذي احتواه واحتمى بجدرانه كان غرفة واحدة تضيق بأفراد عائلة تضم عشر أرواح بشرية محشورة بين أربعة جدران، لذا فمن اللامعقول أن نتصور تلك الجدران وهي تحتضن مكتبة أو بعض كتب، كان الكتاب حلماً لذيذاً ظل يكحل عيون الصبي لفترة طويلة.  كبر الصبي دون أن ينسى طفولته التي أينعت بين القسوة والخراب، صار شاباً يصطاد الكلمات ويكتمها سراً قبل أن تطلق موسيقى المعنى، كان كل شيء مؤجلاً، وكأنه على يقين بأن الحاضر الذي كان يعيشه ليس حاضره. يشتغل محارباً الجوع والعوز ويختزن ذهنه كل الكلمات الضاربة بمعناها أوتار الروح، تلك الكلمات التي كانت تتقافز من أفواه المثقفين كأسماك شبكة الصياد. إنه الشاعر والمسرحي العراقي صلاح الحمداني الذي أدرج العام الماضي ضمن انطولوجيا الشعر الفرنسي، العراقي الذي توصل بجهود ثقافية ومعرفية شخصية بحتة، إلى أن يكون اسماً مهماً ضمن شعراء فرنسا بلد الثقافة والآداب والفنون بامتياز.

 

أعترف أن الشاعر والفنان المسرحي صلاح الحمداني، شخصية مُستفِزة، يذكرني بالكتاب المنتمين إلى جيل الستينيات من أبناء المغرب العربي، الكتاب الذين صاروا نجوماً في سماء الأدب والثقافة الفرنسية قبل أن تعرفهم بلدانهم، مثل الكاتب المسرحي الجزائري "كاتب ياسين" والكاتب والشاعر "محمد ديب" على سبيل المثال. حاولت أن أستبين ما تكنه روحه، ورحت أصف له بغداد وشوارعها وبعض الأجواء الخاصة التي خبرها من أهتم بالأدب والحركة الثقافية العراقية حتى بدأ بالحديث وكأنه يتحدث عن حلم أختلط فيه الجمال بالقبح وصار كالكابوس المؤلم ولكن بلذة خاصة:

 

■ حين خرجت من السجن السياسي عام 1973، بعد أن عُذبت وحُكم عليّ بالطرد من مكان عملي ومورد رزقي الوحيد. وبعد فترة من التشرد والجوع والعمل هنا وهناك، استطعت أن أغادر العراق حيث المكان الآخر وليس البديل، هناك وجدت نفسي كبِناء شُيّدَ من بقايا الأشياء، فأنا الحارس الذي كان يقدم قدح شاي الصباح إلى الموظف، أنا بائع قناني الكحول الفارغة أمام مدخل مستشفى الجمهورية.. مشتري خبز "أبو العانة.. الناعس في "خرابة الطنطل" في حي " أبو سيفين ".. أنا الذي يلتقط الكلمات الساقطة سهوا وتلك التي تسيل على دشاديش أصدقائي المساكين.. أنا الذي يكتب في دفتره كلمات مقوسة الظهور، محدبة المعاني. كل ما يترك هو ملكي، ما يسقط عمدا من مسودات الشعراء، ومن أفواههم. لقد ذهبت بعيدا، ويبدو أن من الصعوبة الإلحاق بماضِيّ البعيد... فظهرت كتاباتي ناطقة بما لم يتمكن الناس البسطاء البوح به، ما أهمله عمداً الأدب البرجوازي العراقي آنذاك، أن البساطة برؤية الأشياء، بساطة التمعن بأمور الحياة، تعمِّق مسؤولية المرء ورؤيته بوصف ما يدور من حوله، وبالضرورة تهذب إدراكه. هذا ما وجدتني عليه وهذا بالضبط ما أملكه من زاد ثقافي، فأنا بسيط جداً، وقريب الشبه بوالدتي الأمية.

 

● هكذا يضع الحمداني سطوره أمامنا كسيرة ذاتية قريبة التشابه بواقع العراقي البسيط الذي خبر منغصات الحياة وحلاوة التغزل بهمومه اليومية مستخدماً روحه المحبة لبيئته وأبناء جلدته، ولكن، أعترف أني مهتم في هذه اللحظة أن أقف مع الحمداني على تلك المشاعر التي تذوقها وهو يتسلم ديوانه الأول مطبوعاً باللغة الفرنسية، كان ذلك عام 1979، وكان تحت عنوان "حناجر قروية " وحين سألته، راح يتحدث بسلاسة محببة ولكن صوره لم تكن خالية من الوجع:

 

■ لم أتصور يوما بأني سأنشر مقالة بسيطة أو قصيدة، بل حتى كلمة لها علاقة بالأدب، فكيف وقد صدر ليّ كتاب باللغة الفرنسية ؟ صراحة الأمر، منذ صدور كتابي الأول وحتى الأخير، تلازمني فكرة الكتابة كي أخذ حصتي بالوجود، حقي بالكلام وتلمس متعة نشوة الاحتجاج والتمرد، أريد أن يسمع العالم صوتي. لذلك تجدني بعيداً عن التأويلات، وما عملته، يبقى متواضعا، مقارنة بما أملكه من رغبة بالكتابة.. ذاتيا، أن ما قمت به، فعلة عظيمة الشأن بالنسبة لرجل لم تحتضنه مقاعد الجامعات والمكاتب، ولا يوجد أي شيء في محيط طفولته يجعله يفكر بالكتابة، ناهيك عن السفر. وحين وجدت نفسي مرميا في صخب هذا المجتمع المتنور والمتعلم، مجتمع مثل المجتمع فرنسي بثقافته التي غرف ولا يزال يغرف من ينابيعها كبار المثقفين والمبدعين العرب. كنت أملك طموحا بتغيير العالم، فلابد من إيجاد طريقة غير تلك المتعارف عليها، شيء يكون خارج ( المؤسسة ). شجعني على ذلك ما كنت أطلع عليه في الصحافة العربية من كتابات، وما كان يقع بين يدي من مقالات أدبية وشعرية عربية هنا في باريس، كنت أراها نسخة طبق الأصل مما يبدعه الفرنسيون في مجالي الفن والأدب. فكرت حينذاك بتأسيس مجلة تعني بالأدب - الشعر تحديداً - وتصدر باللغة العربية واللغة الفرنسية. وبالفعل صدرت المجلة التي حملت عنوان " طباشير " وساعدني على تأسيها أحد الشعراء الفرنسيين، ولكنها سرعان ما توقفت لأسباب مادية. بعدها أنشأت دار نشر مع شاعر فرنسي أسميناه " السلالم البيضاء " أصدر كتاباً واحداً ثم توقف لنفس الأسباب. كانت طموحاتنا أكبر من ماديات واقعنا، كنا نعرف هذا، ولكننا لم نعرف الاستسلام لسخافات الواقع المر.

 

● عند هذه الكلمة " الواقع المر " قاطعته لأتلمس عمق العلاقة بين الثقافة والمنفى داخله، وسألته: أنت مقيم في فرنسا منذ عام 1975، ولكن أولى مطبوعاتك جاءت بعد هذا التاريخ بسنوات، فهل يعني هذا أن المنفى وطقوسه وأوجاعه هو المحرك الأساس لنتاجك الإبداعي؟

 

■ النشر في بلد مثل فرنسا ليس شيئاً هيناً، أبداً، خصوصاً حينما تحاول أن تنشر قصائد مكتوبة بلغة البلد الذي تعيش فيه، أي بلغة غير لغتك الأم. تصور لو أن "بودلير" مثلا كتب قصائده الأولى باللغة العربية، أو "مايكوفسكي" كتب قصائده باللغة الإنكليزية؟ لقد صدرت باكورتي الشعرية الأولى بالفرنسية، وكانت مقابل مبلغ مادي استلفته من جدة زوجتي الفرنسية كي أغطي تكاليف الطبع والنشر. علماً أن شعراء فرنسيين معروفين كانوا قد فعلوا نفس فعلتي هذه، وأذكر الشاعر "كوكتو" الذي دفع هو الآخر ثمن مجموعته الأولى. أما اليوم فأنا لا أنشر في فرنسا دون مقابل مادي، أقصد حقوقي ككاتب. ولكن، إذا ما نظرنا إلى النشر في الدول العربية، فالأمر يختلف، فلقد قمت بدفع أثمان جميع كتبي المنشورة بالعربية، ولكني اليوم أهملت هذه الفكرة تماما، فلا يهمني كثيرا النشر باللغة العربية، إلا حين يأخذ الحنين من روحي مأخذاً. من كل هذا، أريد أن أقول لك، ليس المنفى وحده المحرك لنتاج الفكر والإبداع رغم أهميته. أكتب من أجل أخذ حصتي بالتعبير عن الحياة ومفرداتها كما الآخرين. منذ صدور كتابي الثالث في فرنسا وأنا أضع عمداً أسمي الصريح وصورتي خلف الكتاب وأكتب تحتهما بأني مناهضاً للدكتاتور، وأقف ضد حروبه. تلاحظ، أن هذه الطريقة بالتعامل مع الحدث اليومي، ليست فقط نادرة، وإنما لم أجدها عند ذاك الأديب الشاعر، الذي يعيش في أوربا بعيدا عن بطش البعثيين. وهذا ما جعلني بعزلة تامة عن الذين يتصدرون النشر وأدواته، ومنهم من رفض أن ينشر ليّ على أساس أني أتطرق للدكتاتورية والحرب والمنفى، وهذا يعني أن هناك سماسرة أدب وتجار جشعين، وأن المقابر الجماعية والحروب التي راح ضحيتها الملايين ناهيك عن ضرب الآمنين بالغازات السامة هي أشياء طبيعية في عقولهم، وأن المنفى موضوع تافه وعادي في حياتهم. ما أقصده، كان همي أن يصل نتاجي الأدبي لأعدائي وأصدقائي بنفس القوة، هذا جزء مهم من النضال الفكري بالنسبة ليّ، ضد الفاشية العراقية والعربية، في زمن كان شعراء معروفين يعملون في سفارات النظام الفاشي وقنصلياته في أوربا، ومنهم من أعتاد الذهاب إلى مرابد دكتاتورية البعث، أو كان يسامرهم في مطاعم أوربا، واليوم ومن دون حياء يقدمون أنفسهم مناضلين.

 

● المعروف عن صلاح الحمداني في الأوساط الفنية والأدبية بأنه شاعر أكثر من كونه فنان مسرحي، ولكن الحقيقة تقول بأن الحمداني اشتغل كثيراً في مجال المسرح وقام بتجسيد عدة شخصيات، أذكر منها، أنكيدو في ملحمة جلجامش، أحمد العربي المهاجر، وكذلك شخصية وليد الفلسطيني في مسرحية " كفر شما " ترى أي من تلك الشخصيات قريبة الشبه بصلاح الحمداني؟

 

■ المرة الأولى التي أقف فيها على خشبة المسرح كانت على المسرح الوطني ببغداد كعازف " صنج ". كنت صبياً أرتدي الدشداشة المقلمة، وكنت برفقة مجموعة من عازفي الطبول البغدادية " فرق المناسبات والأفراح "، وكانت تسمى بفرقة "علي خرابة " وهو أحد الأكراد الفيليين من محلة " قنبر علي " الذي طلب منه المسرح الوطني حينها أن يقدم فصلاً شعبياً ترفيهياً، وأذكر أن الجمهور استقبلنا حينها بالضحك والاستهزاء، حيث يبدو من خلال زينا البغدادي " عرقجينات وغتر وكَيوات كردية " أقلقنا عليهم اهتمامهم حينذاك بالمسرح التجريبي ومسرح بكيت، لا أدري. حال مجيئي إلى باريس، سجلت وبمساعدة بعض الأصدقاء من التونسيين والفرنسيين في جامعة باريس الثامنة، لدراسة المسرح والسينما وبعض حصص اللغة الفرنسية وعلم الاجتماع. وهذه الجامعة تأسست بعد انتفاضة 68 في فرنسا، وهي تستقطب وتفتح أبواب التسجيل لمتابعة مناهجها الدراسية للطلبة من الشباب وكذلك الشغيلة الذين لم تتح لهم مصاعب الحياة الحصول على شهادة "البكالوريوس"، وكأنهم يقصدوني أنا بالذات، وكنت ومازلت متأثراً بالكاتب الفيلسوف "البير كامي"، متأثراً بحياته ورواياته ونضاله العريق من أجل الحرية والإنسانية، خصوصا روايته "الغريب" وأسطورة "سيزيف". قضيت في دراسة المسرح وفنونه ما يقارب على الأربع سنوات. عام 1979، تركت الدراسة الجامعية، لأني اعتليت خشبة المسرح الوطني الفرنسي لأجسد دور شخصية "أنكيدو"، في مسرحية "كلكامش"، التي أعدها وأخرجها بالعربية أحد كبار المسرحيين في العالم " فيكتور غارسيا " الأرجنتيني الأصل. بعدها توالت الأعمال المسرحية والأفلام القصيرة والطويلة والتجريبية وبلغات عدة، الفرنسية والإيطالية والإنكليزية ناهيك عن العربية طبعا، وحتى باللهجة الفلسطينية الدارجة حين لعبت دوراً رئيسياً مع فرقة " الحكواتي " في مسرحية " كفر شما "، التي جالت بعض المدن الأوربية لشهور عدة. ولكن تبقى شخصية " أنكيدو " قريبة من عقليتي أو ربما حيوانيتي، وحتى فطرتي، لأني كثيراً ما امتلكت أفكارا " نية " غير مطبوخة، أحيانا.

 

● ولكنك لم تتحدث عن مسرحية " الرجل المستطيل " فهل الفارق الزمني بين زمن عرضها وزمننا الحالي الذي يقترب من العشرين عاماً، هو ما أنساك إياها؟

 

■ لا أبداً، وأخبرك الآن أني بعد المشاركة في مسرحيات عديدة واعتلاء خشبات المسارح هنا في باريس ومدن أوربية أخرى، والعمل في السينما والتلفزيون الفرنسي كممثل، جعلني أكتشف وبهدوء، ما يختزنه هذا الفن من مزايا إنسانية. وشعرت أن هناك رغبة عارمة في داخلي تدفعني للبحث والتجريب، حينما قررت الهجرة إلى إسبانيا، برفقة زوجتي الإسبانية الأصل. وبعد أسابيع من وصولنا إلى مدينة صغيرة تطل على البحر، تحيط بها الجبال، تقع جنوب "برشلونة" تكاد تكون قرية، اسمها " سان كارلوس دو لا ربيتا "، غالبية الناس فيها يعيشون على صيد الأسماك، والزراعة ورعي الأغنام. تصورت نفسي حينها في مدينة " المشخاب " جنوب العراق، ولكن بالتأكيد من دون بحر. فأخبرت زوجتي بفكرة العمل المسرحي، مشترطا إيجاد الممثلين من وسط شباب المدينة، بالذات ممن ليس لهم تجربة بالمسرح. بعد أيام تمكنت من اختيار الممثلين، أحدهم كان نادل مطعم، والآخر كان صيادا، الثالثة شابة تعمل في صيدلية وسط المدينة، بالإضافة إلى فتاة تدرس الطب في "برشلونة"، بالإضافة إلى زوجتي الأسبانية التي لم تمتهن التمثيل هي الأخرى. "الرجل المستطيل"، مسرحية أعددتها وكيفتها إلى المسرح من قصائدي، أعني استخدمت الأدوات المسرحية في خدمة القصيدة، إنارة، صوت، موسيقى، ديكور، إكسسوار وممثلين. أي أعداد القصيدة للمسرح، وهذا الأسلوب الإبداعي أستخدمه الشاعر الفرنسي "جان كوكتو، ولكن بالسينما، أتصور أنه كان من الأوائل في أستخدم أسلوب " السينما الشعرية "، أما العنوان "الرجل المستطيل"، فيعود إلى قصيدة طويلة كنت قد أهديتها لأحد أصدقائي التشكيليين الفرنسيين ونشرها في أحد "كاتلوجاته"، اسمه "فيليب كَران" وهو أحد الرسامين البارعين، وكان معروفاً بشخوصه الممسوخة الملامح. والعمل مستوحى أيضاً من فكرة لأحد أعمال التشكيلي العراقي "فيصل لعيبي" ولوحته العظيمة عن "الكفن".

كتاب انطولوجيا الشعر الفرنسي لعام 2007

bottom of page