top of page

غبار يتناثر فوق الروح
بقلم الأستاذ ناجح المعموري

غلاف 1.jpg

غلاف الأنطولوجيا الشعرية "حلم بلا أعمدة"، للشاعر صلاح الحمداني، الصادرة عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، 2022 في بغداد

صورة 2.jpg
الباحث في الأسطورة والأديان القاص الروائي والناقد الأستاذ ناجح المعموري، يكتب عن الأنطولوجيا الشعرية
حلم بلا أعمدة"، للشاعر صلاح الحمداني"

غبار يتناثر فوق الروح

بقلم الأستاذ ناجح المعموري

انتصار ماكليش لمقولة نيتشه الشهيرة " العالم الذي يموت مجازه يموت " وتقشير هذا القول يضع لعبيات اللغة في صدارة المدونات حيث ترسم توصيفات متباينة ، ذات اوجه عديدة ، لأن المجاز متحول وينطوي على طاقات استثنائية ، تصعد بقوتها في الشعر وتبرز تلاوين الشعرية . ويظهر هذا في كثير من اساطير الشعوب التي اقترب منها  صلاح الحمداني وقشرها بشكل مشاكس ومنحها تلاوين مثيرة وجديدة ، من هنا برزت الاساطير في تجربة صلاح الشعرية مغايرة ، هو الشاعر العراقي الوحيد الذي خدش سماكة الاسطورة واسس نموذجاً فريداً ، يعطيه المجاز والرمزيات التي يضعها الشاعر وكأنها حبات طينية . ولعل اسطورة الام حاضرة كثيراً في نصوصه واعطانا سكريات عن العلاقة مع الام الاولى وهي البكرية ، لأنها حازت على حاضر لن يتراجع كثيراً ، بل يظل طاقة البدئي . وللاب حضور ، لكن فاعليه الام وتجلياتها فوارة بشحنات المرائي وزوال صور الابناء التي اكلتهم الحروب . لكن الام ظلت وحيدة لديها حصاد من الاغاني ولم تستطع على مجتمع تلتم عناصره وتكون نظام من الحنين توزعه على الاحياء والاموات . عثر الباحثون على مركزيات الامومية التي قامت عليها المجتمعات الذكورية الحديثة لعرض الحقيقة ان فهم الثقافة الامومية بقيمها ومبادئها وحق الام السائد فيها ، هو نقطة الانطلاق لفهم الالهة الام التي كانت بالنسبة لإنسان تلك  العصور الخاصة بالإلهة الام وربما الوحيدة ، كما سجل فراس السواح .

لم يعد لي ام تنتظرني / ولا حمامة تنوح عليّ / ونوارس الرأس أفلتن غبار يتناثر فوق الوطن /

لنحتفظ في وقت لاحق ما ستسقيني من المطر 

وتحكي حكايات البساتين لعزلة اولادنا 

نعني لموتانا / ص100//

لم يمنح الام حضورها البدئي ، لان ما ترتب من انهيارات وانكسارات شطبت على سرديات الام مع وظائفها التاريخية . حتى رموزها الدالة عليها تلاشت وتعطل دورها في الحضور . واللحظة التي يتعطل فيها الرمز . 

ومثلما كرس كاسيرر ما قاله المفكر نيتشه عندما قال نحن رموز نسكن رموزاً وغياب الام الرامزة للبدئية او الام الموضوعية ذات العلاقة بالواقع وقد رممته الام واضفت عليه من جماليات ، وتلاش كل شيء لها ، حتى رمزها الامومي البدئي " الحمامة " ولا حمامة تنوح عليّ ان ظواهر التعطل وبواقي ربيع الحياة التي ابتكرتها الام وكان الابن احد معالمها وملامحها . لكن الابن الباسل باق على علاقته مع الام ، لان الحياة لا تعني شيئاً باندثار الام او الامومة ، لذا هتف مردداً " لنحتفظ في وقت لاحق ما سيتبقى من المطر / ونحكي حكايات البساتين لعزلة اولادنا / ونغني لموتانا //

الحمامة رمز وعلامة ، صورة ذات شعرية وحضور شفاف جداً باعتبارها وسيلة دلالية معبرة عن الام البكرية التي ارتضى الكائن الاول بها كآلية للتفاهم بها والحوار معها ، وهي من اعظم مبتكرات حضارة سومر في التوجه نحو اللغة ، التشكيل ، لان العلاقة ، الرمز " الخطوة الجبارة " التي ذهب اليها السومري بجرأة وشجاعة ، وتخندقت وسط التداول وتجوهرت كثيراً ، واضاف اليها تطويرات جديدة تحي المدون ، المكتوب لحظة توظيف الطين والتعرف على النار لأنها عامل مساعد وقوي ، تحافظ على المكتوبات / الايقونات والتي نجح عبرها الانسان بالاقتراب من الجسد ، الصورة ، والنجاح بالتعرف على ما يريد رسمه وحصل التشاكل مع العلامة والرمز .

دعوة بيضاء كالشعر اطلقها الكائن من اجل تكريس الجهود للاحتفاظ بما تبقى من تساقطات المطر ، لان المرأة الحيّة بحاجة للمطر والذي هو ماء القلب ، هي بحاجة لتبليل جسدها واحياء حسياته . لكن صلاح الحمداني يلوذ نحو صياح الحلم المسائي . 

ولكن يا ترى / لماذا كانت امي تبكي كلما جاء المساء /

يا ترى .... / لماذا قطع الصبي زهرة في ذلك الصباح /

وراح يطارد ممزقاً اجنحة فراشات الحديقة / ص147//

لن استطيع نسيان صرخة امي المبحوحة وانا في صحراء واسعة ، موحشة شمسها كالفرن ، الوذاحيانا بظلال منكسرة الاعشاب احرقها نار الشمس ، وانتظر ... اترقب دنو الغروب ومعاودة امي صرختها وهي تدعو ابي للحضور وقت المساء . ما اعظم تسلل الليل وهو يستجمع صراخ النسوة والفتيات والمح من بعيد وانا الذي سرقت شموس الجغرافية الطاقة في عيني ، ابت انثاي من يعيد ، لكنها لم ترني ، بل رأيتها ترفع يداً مكشوفة ، عارية تماماً .

هرعت نحوي ونادته بأسمي شممت رائحتك من بعيد وانا الان بين ذراعيك ضاغطاً بكل ما استلبته منك الصحراء ... واطلقت صراخي من الوجع ... لكني غيرت طوقك عليّ مرتعشاً بالحنين ولذت بك واخذتك لروح الصحراء وسأقودك ــ تحقق فعلاً ــ للمخفي من الصحراء التي روضت لنا التخيل ، وتسللنا معاً نحو فراش ترك بلله وشممنا رائحة زنوجة رجل وامرأة ، فتدفقت الطاقة الكامنة من جسدينا وارتعدت الجغرافية ونحن نستمع : 

 لنداء جاء من نافذة مفتوحة بالسر ، لكنها اتسعت لاحتضان الصحراء وهي تردد الكلام :

صباح الخير يا امي / النهار يتدلى على النافذة /

صباح الخير امي / اراك تتأرجحين بصحوتك / واملك قد اوقفه الحراس الليليون / وحدها خرز سبحتك تطقطق في غيمة الرواق / هل تفكرين بي ؟ حينما ينهزم الناس بلا اشيائها / الليالي تتدافع مثل حبات سبحتك / اسيرة مدارتها 

وانا استر منفاي

تبقين بثوبك المنقط بورود الحداد

ونورك الملوث بالتراث

منشغلة بما يملأ ليس ببطاقة التموين

ما هو شكل صباحك الان ؟

هل حلمتِ ؟

أية سورة قبل النوم قرأت

انا اتذكر ابتسامتك

مع هذه الغيوم المشدودة بالحائط

وأتذكر ضياعي

واهدابك المبللة بالغبار

في لحظة وداعنا الاخير .

حلمي ثقيل يا امي / ص42/

bottom of page