top of page

صلاح الحمداني : نفرت من دور النشر العربية

وأموت على بغداد

صلاح الحمداني
الشاعر زياد ميمان

زياد ميمان : التقيت بشعراء وأدباء عرب في فرنسا ومن خلال اقترابك من تجاربهم الادبية كيف وجدتها وهل امتزجوا بالحالة الأدبية الفرنسية أم أنهم حافظوا على كيان أدبهم العربي؟

صلاح الحمداني : الثقافة الفرنسية تخلو من العنصرية، لغتها وأدبها يتقبلان من هو أجنبي وغريب، وهي منفتحة على الآخر عربيا كان أم أذربيجانيا، وتحمي المبدعين الأحرار، باقتضاب شديد، من يحاول أن يحافظ على كيانه الأدبي وعلى لغته الأم ويعكسها من خلال اللغة الفرنسية ستجده بالضرورة لا يتعايش مع الثقافة الفرنسية ولغتها إلا بالكاد، بهذه الحالة، ربما تجد تعاطفا إنسانيا من الفرنسيين والمثقفين على وجه الخصوص معه ومع كيانه الثقافي العربي وغيره، لكنهم لا يعطونه حيزا فكريا أكثر من ذلك، أقصد أنه يبقى محليا من وجهة نظر اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية. أما من هو أجنبي ويكتب باللغة الفرنسية ويبدع وينشر بها فهؤلاء تجدهم أحيانا يتصدرون واجهات الصفحات الأولى في الصحافة الوطنية الفرنسية، ويتوجون بالجوائز والمنح وبالبرامج التلفزيونية، ناهيك عن اهتمام الإعلام السمعي والبصري بهم وبنتاجهم. هناك شعراء وروائيون من أصول عربية لكنهم يكتبون باللغة الفرنسية، تجدهم معروفين جدا على الساحة الثقافية الفرنسية وفعالين، بالمقابل تجد هناك بعض الشعراء العرب والأجانب ممن يعيشون في فرنسا ولا يكتبون بلغتها لكنهم معروفون أيضا مع أن نتاجهم الأدبي بالأصل مترجم عن لغتهم الأم إلى اللغة الفرنسية. بشكل عام، ومن وجهة نظري، هناك شعر وأدب جدير بالقراءة عربيا كانا أم هندوسيا، مترجما كان أم لا.. أقول جدير بالقراءة والاهتمام لأنه يظهر وبوضوح إمكانيته في نسج الروابط الحميمة ما بين الناس وما بين الشعوب والثقافات، متجاوزا حواجز الدين والعرق والجنس واللون.. ناهيك عن أن لا أحد يستطيع تحديد التذوق الأدبي للناس وللقراء بشكل خاص، والفرنسيون كباقي شعوب العالم تواقون للسلام، رغم مشكلاتهم السياسية والاقتصادية والإرهاب الإسلامي الذي يطعنهم في الظهر.

 

زياد ميمان : يغلب على أمسياتك ولقاءاتك الشعرية حضور الموسيقى والعزف، إلى أي حد تكون الموسيقى ضرورة للشعر؟ وهل تلمس اختلافا لدى الجمهور بين أن تكون الامسية مع الموسيقى أو بدونها ؟

صلاح الحمداني : الأمسية الشعرية بشكل عام نشاط ثقافي للترويج عن سلعة تجارية، متمثلة بالكتاب، حتى لو كان من يعدها ويقدمها صاحب قضية.. هذا يعني أن القضية [مهما كانت] في الأماسي الشعرية تبقى سلعة تجارية بحتة أيضا، لكي نستأصل منها هذا المفهوم القاسي، جاء مزج الموسيقى مع الشعر.. الشاعر العراقي والعربي لا يقرأ شعرا وإنما يخطب شعرا، ما عدا بعض الاستثناءات هنا وهناك، وهو مقيد بالخطاب حتى لو كان شعره سورياليا، وتراه ينتظر دوما أن يصرخ به أحد المتلقين ويقول له [أعد، أعد] وهو يعيد ويكرر وبعدها يصفقون له، الخ من السيرك.. لكن عندما تتزاوج الموسيقى مع الشعر يتطلب من الشاعر أن يتحصن بإمكانيات أخرى لا علاقة لها بالكلام وبالفاعل والمفعول به، لا علاقة لها بالنحو والبلاغة وجزالة اللفظ وبالبحور الشعرية والدراسات الجامعية، لا علاقة لها بإرضاء الجمهور أو عدمه. هي إمكانيات وتقنيات تعود إلى أدوات المسرح، وكيفية استخدامه والاستفادة من فسحته [الخشبة] ناهيك عن الإنارة، والجلوس أو الوقوف وعلاقة الشاعر مع النوتة الموسيقية، ومع الآلة الموسيقية، بيانو، عود، سنطور، قيثارة الخ، والأهم من كل ذلك علاقة قصيدة الشاعر مع مؤلف الموسيقى وعازفها، وعلاقتهما سوية على خشبة المسرح أو في مكتبة عامة أو في شارع عام الخ من التعقيدات. فيما يخصني لا أفضل أن تصاحبني الموسيقى دوما، لأنها مرات تمسخ القصيدة وتجعلها كومة من الإرهاصات، وتسخف صوت الشاعر.. لا لحتمية الموسيقى مع الشعر، كل هذا يعتمد وبالدرجة الأولى على مؤلف القطعة الموسيقية التي تناسب القصيدة، صوت الشاعر وحضوره مرات يطغي كثيرا ويؤثر بالمتلقين، ولنا أمثلة كثيرة في شعراء عرب قصائدهم سطحية [صالونية] لكن القاءهم يبهر الجمهور، وشعراء عرب مبدعون قصائدهم عميقة وإنسانية لكن حضورهم وصوتهم لا يصل آذان المتلقين.

يبدو لي أن الجمهور المهتم بالشعر، المتذوق، المطلع، من خلال استماعه وإنصاته وصمته وتفاعله مع القصيدة، يعكس بحضوره رونقه، خاصة على الشاعر، ويدفعه بالاتجاه الصحيح لتقديم شعره.. أما فيما يخص الموسيقى في أمسياتي فهي ليست ديكورا ولا تصاحب قصائدي بشكل روتيني أو تطنطن مع صوتي وكلامي، هكذا لا على التعيين، كما هو متعامل به في بعض العروض والأمسيات الشعرية الموسيقية.. الموسيقى في أمسياتي كتبت خصيصا لقصائدي، ألفت لها، وهي تدردش وتحاكي النصوص دراميا وتراجيديا، ونحرص أنا والموسيقي على أن تكون عناصر العرض من موسيقى وشعر متكاملة ومتراصة بقوة.

 

زياد ميمان : من خلال تقديمك لنص شعري او نثري تحرص أحيانا على تمرير عبارات عربية عندما يكون التقديم بالفرنسية لماذا تستخدم هذه العبارات؟

صلاح الحمداني : لم أفعل هذا أبدا.. ولا أعتقد أني سأفعله يوما. وأنا لا أستخدم عبارات عربية عندما أتحدث مع الجمهور الفرنسي، ولم يحدث أني خلطت الفرنسية والعربية أمام الجمهور. بل أقرأ قصائدي بالعربية والفرنسية، علما أنني أعطي للغة الفرنسية حضورا متميزا.

 

زياد ميمان : أدرج اسمك ضمن انطولوجيا الشعر الفرنسي الحديث لهذا العام برأيك لماذا تم اختيارك وانت العربي العراقي الذي نفي وعاش في فرنسا؟

 

صلاح الحمداني : ليست المرة الأولى التي يذكر فيها اسمي في انطولوجيا شعرية فرنسية وإنما ربما العاشرة أو أكثر.. نحن نعرف بأن هناك أكثر من انطولوجيا شعرية تصدر في فرنسا كل عام، بطبيعة الحال، لا شيء يجبر أعضاء لجنة انطولوجيا للشعر الفرنسي على اختيار أو حذف شاعر ما، سوى المستوى الشعري والإبداعي. فهم يتعاملون مع النتاج الإبداعي دون التفكير بالمصلحة الذاتية الضيقة. وهم غير قلقين على وجودهم الشعري حينما يقيمون شاعراً ما، والحقيقة أنني لا أعرف دائما مؤلفي هذه الانطولوجيات، ولكنهم قرأوني واختاروني، ولم يوقفهم اسمي العربي. فأعضاء اللجنة لم يشطبوا على قصائدي الفرنسية بحجة أن هذا الأديب والشاعر من أصل عراقي، ولم يضعوا خطاً أحمرا تحت اسمي كونه لا يمت بصلة لأسماء أبنائهم وأدبائهم، فهم كشعراء وكتاب حين يختارون شاعراً، ويتحدثون عنه، تراهم في منأى عن المصالح الآنية والذاتية التي تفسد الإبداع وجمالياته كما حدث معي مثلا عندما لم يذكر ولا حتى اسمي في مقالة إنشائية طويلة كتبها أحد الصحفيين والمترجمين العراقيين المتواجدين في فرنسا عن الشعراء العراقيين والعرب في فرنسا في مجلة نزوى العدد الثامن عام 2009.. كما أعتقد، وحده النص وجمالية الشعر ما جعلهم يختارونني في الأنطولوجيات الشعرية الفرنسية المختلفة، وهذا ما كان في حسبانهم، وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على أن هناك نقاء آدمي في عالمنا الكبير، وأن هناك مكانا أيضا للمنافقين والطارئين على الإبداع والأدب، وأن الثقافة بمفهومها الكوني لا زالت بعافية.

 

زياد ميمان : كونك مسرحيا وشاعرا استطعت أن تطوع هذا الابداع في ابداع واحد، كيف يحدث على أن يكون الشعر مسرحا وأن يكون المسرح شعر؟

صلاح الحمداني : بعد أن درست المسرح في باريس لمدة أربع سنوات، وبعد المشاركة في مسرحيات عديدة واعتلاء خشبات المسارح هنا في باريس ومدن أوربية أخرى، والعمل في السينما والتلفزيون الفرنسي كممثل، جعلني أكتشف وبهدوء، ما يختزنه هذا الفن من مزايا إنسانية رفيعة. وشعرت أن هناك رغبة عارمة في داخلي تدفعني للبحث والتجريب فيه. فبدأت بقصائد وكتابات الشاعر اليوناني العظيم "يانيس ريتسوس" وقدمت من خلال كتاباته وأشعاره مسرحية باللغة الفرنسية حملت عنوان "الصمت ليس ورديا، إنه أبيض"، فقد أعددت وكيفت قصائده مسرحيا، [لا أتحدث هنا عن الشعر المسرحي أو الملحمي المتعارف عليه]، مستخدما كافة أدوات المسرح في خدمة القصيدة الواحدة، إنارة، صوتا، موسيقى، ديكورا، إكسسوارا وممثلين. وهذا الأسلوب الإبداعي استخدمه الشاعر الفرنسي "جان كوكتو"، ولكن في السينما، وأظنه كان من أوائل من استخدموا "السينما الشعرية". بعدها طورت الفكرة وألفت مسرحية من خلال قصائدي حملت عنوان "الرجل المستطيل"، وعرضت في إسبانيا من قبل أربعة ممثلين باللغات الإسبانية والكتلانية والفرنسية والعربية. ولكني تركت هذه الفكرة لأنها مرهقة كثيرا وتتطلب تحضيرات جمة، كما تأخذ الكثير من الوقت، فإعداد مسرحية من هذا النوع يتطلب قراءة المؤلفات الكاملة للشاعر، وبعدها الاختيارات، الخ.

 

زياد ميمان : بين الحين والآخر توقع كتابا لك هنا أو هناك كيف ترى الحضور العربي في هذه الفعاليات التي تنظمها وهل تجد تجاوباً لأشخاص ليس لهم علاقة شخصية بك؟

 

صلاح الحمداني : لا أعتقد أن في فرنسا وجودا لجمهور عربي يهتم بالشعر والثقافة بشكل عام، كما لا وجود لقارئ عربي للشعر حصرا. ربما تجد بين الحين والآخر عربيا في أمسية شعرية، وهذا استثناء بحت. المثقفون العرب أنفسهم لا يحضرون أماسي شعرية للآخرين إلا ما ندر. والجاليات العربية منعزلة عن بعضها ومتشتتة ولا تهتم بما يفعله الآخرون. كما أن الثقافة في بعدها الإنساني الشامل هنا غير متساوية بين جالية عربية وأخرى. لا أتوجه في أمسياتي خصيصا للعرب ولا يهمني كثير أن لم يحضروا، يسعدني بطبيعة الحال لو تواجدوا، لا أقصد حضورهم في أمسياتي فقط وإنما كذلك في أماسي الشعراء الآخرين، لأني متأكد أن ذلك سيعود عليهم بالمنفعة الفكرية والاجتماعية والثقافية ليس إلا.

 

زياد ميمان : ما هو جديدك في الساحة لشعرية والمسرحية ؟

صلاح الحمداني : في المسرح لا شيء..

أما في الشعر فقد ترجمت مع "إيزابيل لآني" مجموعة شعرية من العربية إلى الفرنسية حملت عنوان "بعيدا عن دمشق" وهي لشاعر وصحفي سوري واعد اسمه "عمر يوسف سليمان" وقد صدرت هذا العام 2016 عن دار نشر "لو تان دي سيريز".

أصدرت أسطوانة مع الموسيقي "أرنو ديبلو" حملت عنوان "لا تفكر في بغداد"، قصائد وقراءات صلاح الحمداني، تلحين وعزف "بيانو وغيتار" "أرنو ديبلو"، عام 2016.

أحضر حاليا مجموعتين شعريتين سيصدران قريبا باللغة الفرنسية، ومجموعة كتبتها بالعربية بدأت بترجمتها إلى الفرنسية مع "إيزابيل لآني".

وأحضر أيضا أسطوانة جديدة مع الموسيقي "أرنو ديبلو".

وكذلك أعمل حاليا مع الشاعر عمر يوسف سليمان لنشر أنطولوجيا شعرية لشاعرات فرنسيات حصرا. يالإضافة إلى المشاركة في الكثير من القراءات والمهرجانات القادمة فرنسيا ودوليا.

وكالة أنباء الشعر - زياد ميمان

الأحد 9 أكتوبر 2016

صلاح الحمداني : نفرت من دور النشر العربية

وأموت على بغداد

http://www.alapn.com/ar/news.php?cat=3&id=51914

 

 

صلاح الحمداني شاعر وجد ذاته بعيدا عن بلده العراق، لكن العراق عاش فيه ويعيشه إلى الآن، يعشق الحياة والكلمة، ويطرق باب ابداعها في كل لحظة وحين، اختار لنفسه لوناً أدبياً مختلفاً فهو عربي لكنه ابدع شعراً بالعربية وبالفرنسية بشكل أكبر، اشتهر في فرنسا أكثر ودون اسمه في أنطولوجيا الشعر الفرنسي، له فلسفته الخاصة بالحياة، ومن تجربته الأدبية سيكون لنا هذا الحوار.

 

زياد ميمان : لكي تصل أفكارك لماذا اخترت لغة غير العربية لتكتب بها مع أن ثقافتك عربية؟

صلاح الحمداني : لا زلت أكتب باللغة العربية، وأملك رغبة النشر بها، وفي جرارتي أكثر من عشرين مجموعة شعرية وأربعة روايات جاهزة للنشر، لكن ما حدث ويحدث دوما أن غالبية دور النشر العربية والعراقية التي طلبت منها أن تنشر نصوصي، لم تطلب مقابل نشرها مبالغ مادية فقط، وإنما تفرض على الكاتب شروطا تجارية لصوصية تسطوا عليه وعلى ذاكرته وتحوله إلى دمية متغطرسة. وقد التقيت بالكثير من الكتاب والشعراء العرب والعراقيين الذين يعملون في النشر، ليس لأنهم مبدعون، وإنما لأنهم تجار ويملكون المال، أقول هذا مع التحفظ والاستثناء على بعض دور النشر العربية وبعض الشعراء.

هذا ما جعلني أنفر من دور النشر العربية والعراقية وأرفضها فكرة وموضوعا، ومع مرور الزمن تحولت اللغة العربية عندي إلى مقبرة أدفن فيها قصائدي وكتاباتي. أعتقد جازما أن ذلك يعود إلى أن الثقافة العربية في تراجع مزمن ومميت، وأن غالبية مثقفيها خانعون ومتواطئون مع قواعد هذه اللعبة الغبية، بل ومساهمون فيها، ناهيك عن أن الدول العربية، كما تسمى، لا تملك مشاريع ثقافية فكرية أو فلسفية لمواطنيها وشعوبها، وإنما مشاريع حروب وقتل وكراهية وبناء أحزاب فاشية قومية ودينية همها الأساسي السيطرة على خيرات البلدان وسرقتها. اللغة العربية ومنذ سنين طوال لا تملك مشروعا ثقافيا أو فكريا أو فلسفيا تحاور بهما العالم ولغات الشعوب الأخرى، وذلك يعود إلى جمودها كلغة، فهي لم تتطور مثل الكثير من لغات العالم الأخرى، وهذا يتطلب تغييراً وإذا لم يحدث التغيير بـ "عزل الدين عن الدولة" وتخليص عقلية العربي من سيطرة الدين، ووضع اسس لديمقراطية المجتمعات العربية وإخراس الطائفية والطائفيين والحد من الانتماءات القبلية والعشائرية، فإن دوي الكارثة على الشعوب العربية وثقافاتها ولغاتها سيكون عظيما.

 

زياد ميمان : لم تكن تعرف شيئاً عن فرنسا سوى فيلسوفها ألبير كامو.. حدثني عن اختيارك لها منفى لك ؟

صلاح الحمداني : بلى، كنت أعرف أيضا وأقرأ بالعربية لرامبو، وبودلير وسارتر الخ، لكن كان ألبير كامو يأتي في قمتهم. تعرفت عن كثب على كتابات كامو عند خروجي من السجن السياسي في بغداد، وذلك في عهد الدكتاتورية الصدامية البائدة. كانت مؤلفاته المترجمة عن الفرنسية تباع في أسواق الكتب والمكاتب البغدادية، وأول كتاب قرأته لكامو في مقاهي بغداد كان "أسطورة سيزيف". حينها كنت فقير الحال وأسكن في غرفة صغيرة وقذرة في إحدى أحياء بغداد القديمة، كان سكان ذلك الحي من الفقراء والعاهرات واللصوص والشعراء والناس الطيبين، وقد كان بالنسبة ليّ من أروع وأجمل أحياء بغداد الشعبية القديمة. آنذاك كنت مراقبا ومطاردا من قبل الاستخبارات والميليشيات البعثية الفاشية. "فجاءت "أسطورة سيزيف" لكامو، لكي تنقذني من الانزواء، والملل من الحياة وكآبة الوجود، والانتحار وجعلتني أنتفض ضد الدكتاتورية، وحقنتني بحب الوجود رغم عدميته. وجعلتني أكون سعيدا رغم مأساتي ومظلوميتي. عندما علمت أنني كنت على لائحة سوداء قررت الهروب والمجيء إلى فرنسا، تلازمني فكرة لا زالت تعيش فيّ، أن شعبا وثقافة تنتج كاتبا مفكرا مثل ألبير كامو فهذا يعني أنه شعب متحضر، يملك ثقافة عظيمة ومزدهرة دوما، وعليّ أن أذهب لأعيش وأتعلم منه، واليوم، بعد أكثر من أربعين عاما في فرنسا لا زلت أرتوي من ثقافتها الإنسانية العظيمة، هذه الثقافة التي أعادت لي كرامتي وآدميتي، وحمتني من الطغاة والإرهابيين وحولت منفاي إلى واحة للإبداع والاحتجاج والشكوك والأجوبة والأسئلة العصية في هذا الوجود. 

زياد ميمان : يأخذ الشعر في المنفى طابعا مختلفا من حيث الحنين للوطن، إلى أية درجة يسكن العراق في شعرك؟

صلاح الحمداني : الحديث عن العراق ذو شجون، لذلك لن أطيل عليك وعلى القارئ بالجواب على هذا السؤال، وإنما سأدرج لك بعض عناوين من كتبي ليتسنى لك وللآخرين معرفة حجم الضيم العراقي في داخلي وكيف قدمته باللغة الفرنسية وذلك من دون مساعدات وشعارات ومزايدات على أحد، أنا لا أحب الأعلام والرايات والمطبلين، أنا لست دولة، لا أمثل دولة ولا حكومة ولا حزب ولا طائفة ولا قبيلة ولا مجموعة ما من الناس ولا دين معين، أنا ليس بحاجة لأحد أو لقضية لأشعر بقيمتي، وحنيني ولعنتي وعراقيتي يخصاني وحدي دون سواي، ولكني أموت على بغداد.. والأهم من كل ذلك، أنا رجل ذو مبادئ إنسانية رفيعة، وأحترم القيم والمبادئ السامية للبشرية، ممتلئ بحب الحياة، متفاءل وأحاول في جعل العالم مكانا أفضل لنحيا فيه جميعا.. أحاول دوما في الحفاظ على الذاكرة من الضياع والتلف، والشعر بالنسبة ليّ ليس مشروعا بل طريقة مُثلى لترك أثرا في عبثية هذه الوجود.. أما الحنين فقد تحول عندي مع مرور الزمن إلى ذاكرة وليس إلى ذكريات، ومن خلال الكتابة أحاول إيصال هذه الذاكرة لمحاورة الآخر. أنا أنتمي إلى العراق كذاتٍ متجذرة في الذات الإنسانية لا كوطنٍ للصراعات والهمجية والحروب الطائفية، رغم أن الشاعر وبشكل مطلق يبقى قلقا أيّا كانت جنسيته وإقامته.. هذه نماذج من كتبي :

 

"ولدان من بغداد"، كتاب حواري : صلاح الحمداني و"روني سوميك" يحاورهما الروائي "جيل روزية" صدر الكتاب باللغة الفرنسية عن دار "ليزاران"، باريس، 2015.

 

"بغداد حبيبتي"، مجموعة شعرية كتبتها باللغة الفرنسية، صدرت في طبعة جديدة ثالثة، عن دار نشر "لو تان دي سيريز" عام 2014.

 

"وداعا يا جلادي"، رواية سردية كتبتها بالعربية وترجمتها بنفسي إلى الفرنسية بمساعدة "إيزابيل لآني" صدرت عن دار نشر "لو تان دي سيريز" عام 2014.

 

"بغداد ـ القدس، على حافة الحريق"، مجموعة شعرية بثلاث لغات، العبرية والفرنسية والعربية كتبتها مع الشاعر اليهودي العراقي "روني سوميك"، وصدرت عن دار "برونو دوسة"، باريس [2012]. كتبت قصائدها العربية وقمت بترجمتها بنفسي إلى الفرنسية بمساعدة "إيزابيل لآني".

 

"بغداد سماء مفتوحة"، مجموعة شعرية كتبتها باللغة الفرنسية، صدرت عن دار "ليكري دو فورج و ليده بلو"، باريس ـ كندا، عام 2006.

 

"العودة إلى بغداد"، رواية سردية، كتبتها باللغة العربية ومن ثم ترجمتها إلى اللغةالفرنسية مع "إيزابيل لآني" صدرت عن دار "لو بوان سير لو أي"، باريس 2006. ثم ترجمت إلى اللغة الإنكليزية ونشرت ضمن أنطولوجيا شخصية عن نتاجي الأدبي وصدرت عام 2008 في نيويورك.

 

"قصائد بغداد"، مجموعة شعرية ثنائية اللغة، قصائد كنت قد كتبتها باللغة الفرنسية عندما زرت والدتي في بغداد عام 2004 أي بعد ثلاثين عاما من المنفى، وعند عودتي إلى باريس قمت بترجمتها إلى اللغة العربية، لتنشر ثنائية اللغة : العربية والفرنسية، وقد صدرت في كتاب فني صمم مع رسوم للفنانة الفرنسية "دانيال لوازل"، وصدر عن دار نشر "سيجنام"، باريس، 2005.

 

"مقبرة العصافير" يتبعه "بغداد حبيبتي"، قصص قصيرة وشعر: صدرت عن دار "أوب"، باريس، [2003] وهو كتاب يحتوي على قصائد كتبتها باللغة الفرنسية ويحتوي كذلك على نصوص سردية كتبتها باللغة العربية ومن ثم ترجمتها إلى اللغة الفرنسية مع "إيزابيل لآني" مقتبسة من كتابي "حياة بين قوسين" [2000] الصادر عن دار المدى في دمشق؛ ويحتوي الكتاب كذلك على نصوص سردية كتبتها مباشرة باللغة الفرنسية.

 

وأكثر من ذلك...

 

زياد ميمان : ما مدى تأثرك بالحالة الشعرية الفرنسية وهل تظهر لديك حالة شعرية عربية فرنسية أم أن كتابتك بالفرنسية تجعل هذا الابداع يخلو من الروح العربية؟

صلاح الحمداني : أنا أفكر باللغة الفرنسية وموجود فيها، أتحدثها وأنتج بها فكرا وعملا، أحلم بها وأحزن وأفرح بها كذلك. اعتليت المسارح ومثلت بها شخصيات، مثلت بلسانها في السينما والتلفزيون الفرنسي، نشرت بها شعرا ونثرا، كذلك ناضلت بها سياسيا ونقابيا، وربيت أولادي فيها، عشقت بها وكرهت أيضا، وكل ما قرأته سابقا من مؤلفات فرنسية مترجمة إلى اللغة العربية، أعدت قراءته باللغة الفرنسية، ولم أعد أقرأ ما يترجم منها إلى العربية. لا أهتم كثيرا بالروح العربية في كتاباتي ولا كذلك فيما إذا كان هناك روح فرنسية، لم أفكر بهذا الموضوع أبدا. اللغة الفرنسية لغة إنسانية حية ومتطورة دوما وغير راكدة، وهي تناسبني فكرا وفلسفة أكثر من اللغة العربية. لا تنس أنني عملت لأكثر من عشرين عاما مسؤولا وأمين مكتبة تحتوي على أكثر من عشرة ألاف مؤلف، وكنت مسؤولا عن تزويد هذه المكتبة بأحدث الكتب الفرنسية والأجنبية سنويا.. دعني أقول : إنني شاعر ومسرحي من أصول عراقية أكتب وأنشر باللغة الفرنسية ! هذا يعني أنني لا أعد نفسي شاعرا فرنسيا أبدا ولا شاعرا عراقيا ولا حتى عربيا أيضا، لنقل مجازا إنني لقيط بين الإثنين.

bottom of page